غالباً ما ارتبط الكلام عن الرومنطيقيّة (أو الرومنسيّة)، بشعراء وفنّانين. ولمثل هؤلاء دَين كبير على الثقافة الغربيّة، وتالياً على الثقافة العالميّة. فعالمنا كان ليكون أفقر كثيراً لو لم يعرف شعراء كبايرون ووردسورث وكولريدج وهايني ونوفاليس، أو فنّانين كغويا ووليم بلايك ودولاكروا وكونستابل.
فإبداع هؤلاء وأمثالهم إنّما عبّر عن تمزّقات النفس في علاقتها بالعالم الخارجيّ، وعن سعي إلى الحرّيّة لا تحدّ منه الضغوط والمعايير على أنواعها، فضلاً عن انجذاب إلى الطبيعة بعيداً من حياة المدينة والحضارة وقيودهما، وأحياناً انجذابٍ إلى «الشرق» الزراعيّ، الأقرب إلى الطبيعة والموصوف بالسحر، وابتعادٍ عن «الغرب» الصناعيّ حيث الزحمة والدقّة وأنظمة صارمة يفرضها تقسيم العمل وإيقاع الحياة السريع وضوابط البيروقراطيّة.
والحال أنّ الرومنطيقيّة نفسها ولدت من نُفورين اثنين: من جهة، نفور من الثورة الصناعيّة والتمَديُن، ومن جهة أخرى، نفور من التنوير وتحكيم العقل اللذين صُوّرا اعتداءً على ما هو أصليّ وأصيل في البشر.
جان جاك روسو
بيد أنّ الرومنطيقيّة لم تنتج شعراء وفنّانين فحسب، بل أنتجت مدرسة فكريّة كانت هي الأخرى وليدة الاحتجاج على التنوير والثورة الصناعيّة.
وبدورها كانت ألمانيا مسرح المدرسة الرومنطيقيّة الأبرز والأهمّ في أوروبا. فالبلد المذكور بقي إمارات مفتّتة حتّى 1871، كما تأخّرت ثورته الصناعيّة قرناً عن مثيلتها الإنكليزيّة ونصف قرن عن مثيلتها الفرنسيّة. هكذا لم يكن لدى الألمان مستعمرات كالإنكليز والفرنسيّين، ولم تنشأ عندهم صحافة وطنيّة، كما ظلّت قراهم وبلداتهم ومدنهم الصغرى معزولة نائية عن المراكز الحضريّة.
فوق هذا دفعت ألمانيا ثمناً غالياً جرّاء «حرب الثلاثين عاماً» (1618-1648) المدمّرة، ثمّ أنهكتها الحروب النابوليونيّة في البدايات الأولى للقرن التاسع عشر.
وباختصار، لم تكن ألمانيا سعيدة بالعالم الجديد، فكتب شاعرها غوته مثلاً: «ألمانيا؟ أين هي؟ لا أعرف أين أجد بلداً كهذا!». ولمّا كان التنوير قد ارتبط بالأعداء الفرنسيّين، زاد كرهُ الألمان لهذا التنوير الذي بدت أفكاره بعيدة ومجرّدة وباردة تفتقر إلى حيويّة الحياة العاديّة، وشديدة التورّط في الرياضيّات والتقنيّات في معزل عن الشغف بالوجود الإنسانيّ. وفي هروبهم من الواقع الجديد ساد التعويل على الذات الداخليّة، وعلى الغامض واللاعقلانيّ والفولكلوريّ والروحانيّ، كما استقرّ الأمر بالرومنطيقيّين الألمان، وأكثر من أيّ شعب أوروبيّ آخر، على تقديس اللغة والطبيعة بوصفهما الظاهرتين اللصيقتين بالنفس ممّا لم يأبه له التنويريّون. لكنّ العداء للتنوير لم يحل دون التعامل مع أحد الرموز التنويريّين، جان جاك روسّو، بوصفه عرّاب الرومنطيقيّين الألمان الروحيّ. فروسّو هو من مجّد «حالة الطبيعة» و»المتوحّش النبيل» حيث عاش الناس، وفقاً له، متحرّرين من رذائل الطمع والتنافس والصراع.
غوته
*****
عندنا، في العالمين العربيّ والإسلاميّ، لم تكن المشكلة مع التنوير، وهو ما لم نعرف، ولا مع الثورة الصناعيّة التي لم تقلع في ربوعنا. كانت مشكلتنا مع الغرب الذي وفد إلى بلداننا محمّلاً بأشياء كثيرة في عدادها الدولة والتنظيم والإدارة والبنى التحتيّة والتعليم الحديث، ولكنْ أيضاً عنف الاحتلال وقسوته. هكذا اتّخذت رومنطيقيّتنا شكل النفور من واقع مستجدّ يشكّله الغرب والميلُ إلى الفرار منه، والتفكير كما لو أنّ هذا كلّه زائف أو مزعوم. وما ضاعف النفور أنّ الحدث الكبير هذا تلازم مع تداعي السلطنة العثمانيّة ومن ثمّ انهيارها بعد الحرب العالميّة الأولى، ثمّ مع إلغاء الخلافة الذي أقدم عليه أتاتورك في 1924. وربّما كان جمال الدين الأفغاني خير من عبّر عن تلك الحالة في دعوته إلى «جامعة إسلامية» يستعيد معها الشرق، بعد أن يصلح نفسه، تلك القوّة التي كانت له في الماضي.
اقرأ ايضا: «الإعلام» الكويتية تقرّ آلية جديدة لإجازة العروض المسرحية والفنية لمنع «المحظورات»
غير أنّ المشكلة الكبرى كانت عدم إدراك طبيعة الهزيمة أمام الغرب. فهي، على عكس مواجهات كثيرة عرفها العالم الإسلاميّ في ماضيه، فانتصر في بعضها وانهزم في بعضها الآخر، هزيمة أمام تحوّلات ضخمة تراكمت لتصنع الحضارة الغربية الحديثة. فقبل التنوير والثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، كان هناك عصر النهضة (الرينسانس) ما بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر، واكتشاف أميركا مع كريستوف كولومبوس أواسط القرن الخامس عشر، والثورة العلميّة التي امتدّت من القرن الخامس عشر حتّى القرن السابع عشر، والمراجعة البروتستانتيّة لمفهوم الإيمان في القرن السادس عشر.
هكذا وجد أجدادنا أنفسهم يواجهون أموراً ثلاثة في وقت واحد: فأوّلاً، هم لم يحتملوا التفوّق المصحوب بالغزو، وثانياً، أحسّوا بشيء من الحيرة حيال طبيعته أو «سرّه»، وثالثاً، بدا لهم أنّ محاولات الانتصار عليه أقرب إلى العبث إذ لا تفضي إلى انتصار. وهذا جميعاً أنتج ما يشبه الفرار من الواقع على نحو يمكن أن نسمّيه رومنطيقيّاً.
لكنْ إذا كان في وسع الأفراد الأوروبيّين أن يفرّوا من واقع المدينة والصناعة والتنوير وأن يلجأوا إلى الطبيعة أو إلى الذات الحميمة، فمثل هذا الفرار صعب على المجتمعات والدول، أكانت أوروبيّة أم غير أوروبيّة، وهو قد يكون كارثيّ النتائج أيضاً.
جمال الدين الأفغاني
ولاحقاً، لا سيّما ما بين الحربين العالميّتين، ثمّ بُعيد الحرب العالميّة الثانية، اتّخذ الفرار، مع جيل الآباء، أشكالاً عدّة ساهمت في صنعها تيّارات سياسيّة وإيديولوجيّة كثيرة. فهناك، أوّلاً، مَن استخدموا ما أسموه العودة إلى أصالتنا. وهناك، ثانياً، مَن بشّروا بقوميّة توحّدنا متجاهلةً خصائص الجماعات وكون الدول قد تأسّست أصلاً. وهناك، ثالثاً، مَن توهّموا تغيير العالم وتجنّب تعقيداته من خلال انقلاب عسكريّ يُحلّ في الناس السعادة. وهناك، رابعاً، مَن رفضوا الإقرار بأحوالنا كما هي، مُنكرين وجودَ عناصر التمزّق بحجّة أنّنا «أخوة»، ومُرجعين ما اعتبروه نقصاً أو عيباً إلى الاستعمار أو الاستشراق. وأخيراً، كان هناك من فرّ من الواقع ممتطياً فكرة الإتيان بالتقنيّة من الغرب من أجل محاربة الغرب. وغالباً ما التقت هذه الأشكال، أو بعضها، في الفرار الرومنطيقيّ.
هكذا كانت كلّ مواجهة حادّة مع الواقع تدفع بنا إلى بؤس التخبّط الذي ينقلب، مع حصول الهزائم، إلى لطم وعجز عن الفهم يزيدان في غربتنا عن العالم ومجرياته.
والحقّ أنّ الخروج من وضع كهذا يتطلّب أمرين لا غنى عنهما: فمن جهة، لا بدّ من العمل على استبدال النظرة الضدّيّة والصراعيّة إلى هذا العالم، وإلى الغرب تحديداً، بنظرة تكامليّة تحاول دائماً تحسين شروطها في التكامل. ولا بدّ لميل كهذا أن يتلازم مع الكفّ عن الحفر في الذاكرات المؤلمة وعن فرك الجروح القديمة بالملح والبهار.
أمّا من جهة أخرى، فعلينا التصالح مع حقيقة أنّ العيش في الواقع الفعليّ هو العيش في أوطان وفي دول أمم، وليس في أيّة رابطة أخرى أقلّ من الدولة أو متجاوزة للدولة. فنحن كبشر تتعدّد مستويات إنتمائنا، إذ هناك العائلات والقرابات على أنواعها، وهناك المناطق والأديان والمذاهب والطوائف. وتعدّد الانتماءات هذا قد يُغنينا إذا أحسنّا التعامل معه، إلاّ أنّ الشيء المؤكّد هو أنّ الأوطان هي المستوى السياسيّ للإنتماء، فيما الدول ما يفعّل تلك الأوطان ويجسّدها.
وفي ظنّي أنّنا بغير هذه القناعة لا نفعل سوى المضيّ في الفرار من الواقع نحو الذات الداخليّة، أو نحو العنف الأعمى، أو نحو عالم موازٍ تصعب البرهنة عليه بالعقل وبالتجربة. وهذا جميعاً يُعيد رسمنا رومنطيقيّين على نحو أو آخر.
* ألقيت هذه المداخلة
في «مكتبة الملك فهد» بالرياض كجزء
من نشاطها وموسمها الثقافيّين.

