تكثّفت تحركات برلمانية ليبية داخل أروقة الأمم المتحدة في نيويورك لإعادة إحياء ملف الأرصدة المجمدة منذ عام 2011، في محاولة لإقناع الدول الأعضاء ومجلس الأمن بدعم مبادرة تهدف إلى «حماية أصول تقدر بعشرات المليارات من الدولارات وتنميتها لصالح الشعب الليبي»، وسط انقسام داخلي ومخاوف دولية من سوء الإدارة.
وينظر مراقبون باهتمام إلى سلسلة اللقاءات المكثفة التي عقدتها لجنة التحقق من الأموال الليبية المجمدة بالخارج – التابعة لمجلس النواب – مع فريق خبراء مجلس الأمن المَعنيّ بالعقوبات على ليبيا، إلى جانب بعثات دبلوماسية من فرنسا وروسيا والصين واليونان وقطر والبحرين وباكستان.
وفد برلماني ليبي مع رئيس «لجنة العقوبات الأممية» (مجلس النواب الليبي)
وخلال هذه اللقاءات، حاول البرلمانيون الليبيون إبداء استعداد السلطات التشريعية للانخراط في مسار أكثر تنظيماً لإدارة الثروة المجمدة، عبر تبنِّي استراتيجية استثمارية منخفضة المخاطر تشرف عليها المؤسسة الليبية للاستثمار، في محاولة لتحويل حالة الجمود المالي إلى فرصة لإدارة أكثر كفاءة للأموال الليبية في الخارج، غير أن التفاصيل التنفيذية ما زالت غامضة حتى الآن، وفق بيانات المجلس.
لكنَّ الانقسام المؤسسي لا يزال يلقي بظلاله الثقيلة على هذا المسار. فبحسب عضو مجلس إدارة المؤسسة الليبية للاستثمار السابق، فهد إسماعيل، فإن «تشكيل مؤسسة موازية للمؤسسة الليبية للاستثمار في المنطقة الشرقية بقرار من مجلس النواب، في مقابل مؤسسة معترف بها دولياً في الغرب، زاد المشهد تعقيداً»، مضيفاً أن «وجود مؤسستين تعملان في المجال نفسه يجعل لجنة العقوبات تعد الأمر صراعاً على الشرعية؛ ما يعزز موقف استمرار التجميد لحين توحيد المؤسسات الرسمية».
ويستعيد إسماعيل واقعة سابقة في بريطانيا حين «نشب خلاف بين حكومتي الشرق والغرب حول أحقية إدارة المؤسسة الليبية للاستثمار؛ ما دفع السلطات البريطانية إلى تعيين حارس قضائي لإدارة الأصول مؤقتاً إلى حين حسم الجهة الشرعية»، وهي خطوة قال إنها «أثّرت سلباً في صورة ليبيا في الأسواق والمؤسسات المالية الدولية».
الدبلوماسية الليبية انتصار الطمزيني أمام لجنة الشؤون الاقتصادية والمالية بالأمم المتحدة (بعثة ليبيا الدائمة بالأمم المتحدة)
ويرى مراقبون أن هذا الانقسام يعكس تنافساً ضمنياً بين المؤسستين في الشرق والغرب على شرعية تمثيل الدولة أمام الأمم المتحدة، في وقت لا تزال فيه السلطة المالية منقسمة. وقد برز ذلك، حسب متابعين، عندما ألقت الوزيرة المفوضة، انتصار الطمزيني، ممثلة حكومة الوحدة الوطنية «المؤقتة» برئاسة عبد الحميد الدبيبة، بياناً أمام اللجنة الثانية التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، أكدت فيه أن «استعادة الأموال المجمدة قضية عدالة وتنمية»، داعية إلى تمكين ليبيا من استخدام أموالها في تمويل الخدمات الأساسية ومشروعات التنمية.
اقرأ ايضا: «حزب الله» يستبق «خطة الجيش» بالهجوم على الحكومة اللبنانية
لكن فهد إسماعيل يرى أن «الاتهامات التي تلاحق حكومة الدبيبة بالاستخدام غير الشفاف لأموال المؤسسة الليبية للاستثمار وصندوق الإنماء الاقتصادي والاجتماعي، عززت قناعة لجنة العقوبات بأن رفع التجميد في الظروف الحالية غير ممكن»، مضيفاً أن المجتمع الدولي «لن يتعامل مع مؤسسات مالية منقسمة أو غير خاضعة للرقابة»، مؤكداً أن «الطريق لاستعادة الأموال يبدأ بتوحيد المؤسسات، واعتماد إصلاحات حقيقية في منظومة الحوكمة والمساءلة».
وتخضع الأرصدة الليبية للتجميد بموجب قراري مجلس الأمن رقمي 1970 و1973 الصادرين عام 2011، وتشمل ودائع وصناديق سيادية واستثمارات مالية تبلغ نحو 200 مليار دولار موزعة على مصارف عدة حول العالم، لكن تصريحات لرئيس المجلس الرئاسي السابق، فائز السراج، أشارت إلى تقلُّصها إلى نحو 67 مليار دولار.
وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، أصدر مجلس الأمن قراراً سمح للمؤسسة الليبية للاستثمار باستثمار جزء من الأرصدة المجمدة تحت إشراف الأمم المتحدة، في أول تعديل عملي على نظام التجميد منذ أكثر من عقد. ورغم عدِّه «انفراجة جزئية»، حذر محللون من أنه «لا يمنح ليبيا سيطرة كاملة على أصولها، بل يفتح الباب فقط لإدارتها ضمن رقابة مشددة».
وأوصى تقرير حديث لمجموعة «الأزمات الدولية»، في أبريل (نيسان) الماضي، الأمم المتحدة بإجراء إصلاحات على نظام العقوبات المفروضة، حتى في حال عدم التوصل إلى تسوية سياسية قريبة، مؤكداً أن «الخطط الرامية إلى إنهاء نظام العقوبات ستساعد على تعزيز مصداقية إجراءات مجلس الأمن في المستقبل».
لكن العضو السابق بمجلس إدارة المؤسسة الليبية للاستثمار يذكِّر بأن قرار التجميد «إجراء وقائي لحماية الأموال من العبث أو التصرف غير المشروع خلال فترات الانقسام والصراع المسلح»، مشيراً إلى أن أكثر من 80 في المائة من الأرصدة المجمدة تخص المؤسسة الليبية للاستثمار وشركاتها التابعة، بينما تعود النسبة المتبقية إلى حسابات مرتبطة بالنظام السابق.
وأضاف إسماعيل أن «رفع التجميد الكامل لم يتحقق حتى الآن؛ إذ يقتصر السماح الدولي على استثمار العوائد السنوية الناتجة عن الأصول تحت رقابة لجنة العقوبات التابعة للأمم المتحدة»، معتبراً أن «الحديث عن تحرير الأموال دون توحيد المؤسسات المالية يعد طرحاً غير واقعي».
وخلال لقاءاتها في نيويورك، كررت اللجنة البرلمانية التابعة لمجلس النواب تأكيدها أن تلك الأصول – إلى جانب العوائد المتراكمة منها – يجب أن تبقى محميّة إلى أن تتشكل مؤسسات وطنية دائمة قادرة على إدارتها بشكل مؤسسي ومستقر، مشددة على التزام البرلمان بمبدأ «صون أموال الليبيين، وضمان إدارتها بشفافية».
ويخلص الخبير الاستثماري الليبي إلى أن «استعادة الأموال المجمدة وحمايتها من التآكل أو التنازع لن تتحققا إلا بقيام حكومة موحدة ومنتخبة وفق دستور دائم، تلتزم بالشفافية والرقابة الدولية؛ ما يضمن عودة تلك الثروة لخدمة التنمية والاستثمار في ليبيا».
وفي هذا السياق، يحذر محللون من أن «تتحول الأصول الليبية المجمدة إلى ملف إداري في أدراج نيويورك وبروكسل»، وهي وجهة نظر الباحث السياسي الليبي، محمد الأمين، الذي لا يخفي مخاوفه من أن «يتحول التجميد إلى أداة ربحية لصالح البنوك الغربية التي تحتضن تلك الأرصدة، لتُستثمر في أسواق المال، وتضاف فوائدها إلى أرصدة المؤسسات المالية الدولية».

