الجمعة, نوفمبر 14, 2025
الرئيسيةالثقافة والتاريخنقوش تصويرية منمنمة من موقع مليحة بالشارقة

نقوش تصويرية منمنمة من موقع مليحة بالشارقة

خرجت من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، منها ثلاث قطع منمنمة صُنعت من صدف عرق اللؤلؤ، تزيّنها نقوش تصويرية، تبدو فريدة من نوعها في هذا الميدان. تتشابه قطعتان بشكل شبه كامل، وتُمثّل كل منهما رأس أسد كما يبدو، فيما تمثّل القطعة الثالثة رأس رجل ملتحٍ. تظهر هذه الرؤوس الثلاثة في وضعية جانبية، وتتبع طرازاً فنياً جامعاً يعكس أثر التقليد الفني الذي عُرف به السومريون في صناعة الألواح التصويرية المطعمة بفسيفساء من الصدف.

تقع مليحة في سهل داخلي إلى الغرب من سلسلة جبال الحجر، وأبرز معالمها مجموعة من المقابر كشفت عنها سلسلة متواصلة من حملات المسح والتنقيب. انطلقت أولى هذه الحملات خلال عام 1973، وأشرفت عليها يومذاك بعثة عراقية، تبعتها بعثة فرنسية عملت في هذا الموقع من عام 1984 إلى عام 1994. في المقابل، دخلت بعثة محلية تابعة لـ«هيئة الشارقة للآثار» في هذا الحقل تحت إدارة الأستاذ صباح عبود جاسم، وكشفت عن مدفن كبير حوى 26 قبراً، منها 12 قبراً مخصّصة للجمال، ضمّ قبران منها حصانين. دُفنت هذه البهائم كما يبدو على مقربة من أصحابها الذين احتلوا 14 قبراً، وأظهرت الأبحاث اللاحقة أن رفاتها يعود إلى جِمال في سن اليُفُوع، منها 9 جمال عربية أصيلة و3 جمال هجينة.

تحوّلت هذه المقبرة الغريبة التي تُعرف باسم «البلية» إلى موقع سياحي بعد أن أعيد بناؤها وفقاً للمقاييس العلمية المتبعة عالمياً، ودخلت أبرز اللقى الأثرية التي خرجت منها إلى «مركز مليحة للآثار» الذي شُيّد على مقربة من قبر دائري ضخم يعود إلى العصر البرونزي، يُعرف باسم ضريح أمّ النار، وتمّ افتتاح هذا المركز في مطلع عام 2016. حوت مقبرة «البلية» مجموعات متنوعة من اللقى تشابه تلك التي خرجت من المقابر الأثرية التي تمّ استكشافها في إقليم عُمان، ومنها مجموعة من الأواني المصنوعة من الفخار والزجاج والرخام والبرونز، ومجموعة من الرماح ورؤوس السهام، ومجموعة من الحلى وقطع الزينة الفردية، إضافة إلى مجموعة مميزة تتمثل بفخاخ وأقراص ذهبية وحلقات برونزية، تشكّل جزءاً من الزينة الخاصة بالخيول.

إلى جانب هذه المجموعة المميزة، تحضر ثلاث قطع منمنمة مزيّنة بنقوش تصويرية، صُنعت ممّا يُعرف في قاموس علم الآثار بـ«أمّ اللؤلؤ»، أي من الطبقة الداخلية اللامعة الخاصة بصدفة الرخويات التي يتكوّن منها اللؤلؤ، وتُعرف هذه المادة الصدفية كذلك بعرق اللؤلؤ، وهو المصطلح الأكثر شيوعاً. عُثر على هذه القطع المنمنمة في ركن ضمّ قبرين من قبور مقبرة «البلية»، وهما القبران اللذان حملا الرقم 5 والرقم 6 في التقرير الخاص باستكشاف هذا الموقع، وهي على شكل ثلاثة رؤوس في وضعية جانبية، صُوّرت ملامحها بأسلوب فنيّ واحد.

قد يهمك أيضًا: نقاد سعوديون في «كتارا» يستعرضون سيرة القصيبي الذي انحاز للمهمشين

تُمثّل قطعة من هذه القطع المنمنمة رأساً آدمياً، يرتفع فوق كتفين تشكّلان قاعدة له، وهو رأس رجل ملتحٍ، يعلو جبينه رباط ينعقد فوق شعر كثيف، تتطاير خصلاته الطويلة من الخلف، وتشكّل شبكة من الخطوط الملتوية المتجانسة. تحتل العين المساحة الكبرى من هذا الوجه، وهي على شكل لوزة ضخمة مجرّدة، يحدّها جفن مقوّس عريض، يعلوه حاجب مشابه. وتحضر في وسط هذا المحجر الضخم دائرة صغيرة تمثّل البؤبؤ. الأنف كبير وبارز، وهو على شكل مثلث تتصل قمّته مباشرة بخط الجبين المستقيم. الفم مطبق، ويتمثّل بخط أفقي يفصل بين شفتين تغيبان خلف خصل لحية طويلة، تحتلّ الجزء الأسفل من هذا الوجه.

في موازاة هذا الرأس الآدمي، يحضر رأس بهيمي تتكرّر ملامحه بشكل شبه مطابق على القطعتين المقابلتين. يأتي هذا التكرار بشكل معاكس؛ إذ يظهر رأس محدّقاً في اتجاه اليمين، ويظهر الرأس الآخر محدّقاً في اتجاه اليسار. يبدو هذا الرأس البهيمي من الفصيلة السنورية، ويمثّل على الأرجح رأس أسد مزمجر يكشر عن أنيابه. تماثل عين هذا الأسد في تكوينها عين الإنسان الملتحي، ويشهد هذا التماثل لوحدة الأسلوب المتبع في النقش. الأنف مقوّس، وتعلوه شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية تمثل الوبر، مع دائرة صغيرة في الجزء الأسفل تمثّل المنخر. الفك العلوي مقوّس، والفك الأسفل مستقيم، والشدق مفتوح في وسطهما، وقوامه صف من الأنياب المتراصة. الأذن كتلة بيضاوية مجرّدة، واللبدة ظاهرة في الجزء الخلفي من الرأس، وخصلها أشبه بالحراشف.

كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في المقابر الأثرية الخاصة بدولة الإمارات العربية المتحدة عن مجموعة كبيرة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، تمثّل تقليداً فنياً محلياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية. تخرج قطع مقبرة «البلية» الثلاث عن هذه المجموعة بشكل جليّ؛ إذ تعتمد أسلوباً فنياً مغايراً، واللافت أن هذا الأسلوب الخاص يشبه إلى حد كبير التقليد الفني العريق الذي عُرف به السومريون في صناعة الألواح التصويرية المطعمة بفسيفساء من الصدف، وأشهرها تلك التي خرجت من مدينة أور في جنوب العراق، وتلك التي خرجت من مملكة ماري على الضفة الغربية لنهر الفرات، في طرف الجهة الشرقية من سوريا.

نشأت مستوطنة مليحة في القرن الثالث قبل الميلاد، وازدهرت على مدى ستة قرون من الزمن، والأرجح أن هذه النقوش المصنوعة من عرق اللؤلؤ جاءت من الخارج، كما توحي فرادة أسلوبها في محيطها. صُنعت هذه القطع الفنية على الأرجح في ناحية من نواحي الشرق الأوسط الأوسع، شكّلت فنونها التصويرية استمرارية خلّاقة للتقاليد التي تأسست قديماً في زمن السومريين. وتحديد هويّة هذه الناحية يظلّ افتراضياً، نظراً لتعدّد القراءات والاحتمالات التي تواجه الباحث في هذا الميدان الشائك.

مقالات ذات صلة
- اعلان -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات